مساعد من حوض السمك

عندما أصيب فتى بمرض في الجهاز اللمفاوي, تمكن الاطباء بمساعدة نوع من انواع سمك الزينة من العثور على علاج. عن السيرة المهنية لسمكة زينة صغيرة.

في صباح احد ايام صيف عام 2016 هرع رجل الى الطابق الاول من مشفى الاطفال لينقذ حياة. اسم الرجل كريستوف سايلر, يرتدي رداء ابيضا و حماية لحذائه. في وعاء مخبري زجاجي يحتفظ بما يقرب من مئة من بيوض السمك بيضاء كالحليب و كل واحدة اكبر قليلا من حبة الرمل.

سايلر هو عالم احياء اصوله من المانيا, كان عليه ان يُسرع. خلال نصف ساعة ستبدأ بويضات السمك بالانقسام. وضع الوعاء المخبري تحت المجهر و بدأ بحقن كل بويضة بقطرة من سائل يحوي على مورثة غريبة بواسطة ابرة رفيعة كالشعرة. التجربة ستساعد شابا يعاني من مرضا لا علاج له. و الآن يشرح الباحث للمرة الاولى قصة العلاج.

يقود كريستوف سايلر فريق البحث في المشفى. يدير مئات البرك المليئة بأسماك الزينة البرّاقة. بعض اسماك التجارب هذه لا يتعدى حجمه حجم ظفر الابهام, بعضها عمره عامين و اصبح بحجم اصبع صغير. احواض السمك مرتبة فوق بعضها البعض حتى السقف.

بالكاد يوجد حيوان مخبري وجد انتشارا سريعا كما فعلت اسماك الدانيو المخططة. خلال عقدين من الزمن ارتفع عدد فرق البحث حول العالم من 190 الى 1300. في المانيا تحتل اسماك الدانيو المرتبة الثالثة بين الحيوانات المخبرية. فقط الفئران و الجرذان تفوقها عددا.

في مختبراتهم يقوم الباحثون بتصنيع اسماك بتشوهات وراثية. يقومون بتعطيل مورثات معينة أو ادخال مورثات جديدة. و بناء على هذا تنشأ يرقات بعين واحدة او برأسين. أسماك لا لون لجلدها او بدون خلايا دم. يتعلق الامر بالنسبة للعلماء بدراسة الانخراف عن الوضع الطبيعي. بهذه الطريقة يسعون لفك رموز اسرار الحياة و فهم كيف ينشأ عضو معقد من خلية واحدة و ما الخطأ الذي يمكن يحصل أثناء ذلك. يريد أطباء علم الأحياء تقصي الاسباب الجينية خلف السرطانات و امراض الاوعية و الامراض اللمفاوية. يأملون في العثور على علاج لأمراض نادرة, علاج يتم تصميمه وفق كل حالة.

و بينما تتضاعف اعداد خلايا الاسماك في مختبر فيلادلفيا كل نصف ساعة, يرقد فتى عمره 12 عاما على بعد 300 كم جنوبا في سريره في مدينة فيرجينيا بيتش. لا يستطيع دانيل الوقوف الا بمساعدة, كل خطوة تسبب له ألما. في الليل يرتدي قناعا يربط انبوبا مع جهاز للتنفس. الآلة تضخ بصوت عال بحيث انه يتمكن من النوم بصعوبة. لا يعرف اي شيء عن الاسماك في المختبر. لم يرد الاطباء أن يبعثوا في نفسه أملا, ربما لن يتمكنوا في النهاية من تحقيقه.

af9e5c5a-16e0-4f6e-a2cf-83f9bc142a35_w718_r0.6403897254207263_fpx50.9_fpy36.41

لاحظ دانييل للمرة الاولى انه لم يكن على ما يرام في الصف الرابع. في سباق الجري كان سابقا احد اسرع التلاميذ. و لكن نَفَسه كان ينقطع دائما بعد عدة مئات من الامتار و يسبقه الاطفال الاخرين. في البيت لاحظ كيف تورم بطنه و فخذاه بشكل غير طبيعي. في صورة التقطت بالامواج فوق الصوتية اكتشف الاطباء سوائل في غشاء قلبه الخارجي, الكثير من السوائل. قاموا باستخراج لتر منها تقريبا. و لكن بعد فترة قصيرة امتلأ غشاء القلب مرة اخرى و اصبحت صعوبة التنفس التي اصيب بها دانييل تهدد حياته. أظهر اختبار لأداء رئتيه انخفاضا الى 30 بالمئة من الاداء الطبيعي. اطلق الاطباء في فيلادلفيا على مرضه اسم   “اضطراب لمفاوي سلوكي مركزي”. المرض النادر ليس له مسببات واضحة و يسبب مضاعفات متعددة.

في البشر الطبيعين يعمل النظام اللمفاوي كقناة تصريف للجسم. و لكن لدى المصابين بمرض الاضطراب اللمفاوي السلوكي المركزي تتشعب الاوعية اللمفاوية بطريقة خاطئة و تتجمع بهذا السوائل اللمفاوية في الانسجة و تضغط مثلا على الرئة. يمكن لهذا المرض ان يؤدي الى الموت فيما لو لم يتم علاجه. الأدوية لم تنفع في حالة دانييل. عدة مرات اضطر الاطباء الى التدخل الجراحي في اوعيته اللمفاوية. امضى اسابيع في العناية المشددة, توقف عن الذهاب الى المدرسة. في البيت قلما يغادر سريره. في احد الايام قاس طبيبه المنزلي طوله و وزنه, فيما بعد قالت له امه ان هذا بسبب الكرسي المتحرك الذي ينبغي عليه استعماله.

تحليل للجينات قاد فيما بعد الى مفاجأة. تشوه في احد الجينات و يسمى ARAF  حتى الان مجهول تماما. الطبيب المعالج تحدث الى كريستوف سايلر. و حتى يكتشفوا المزيد حول هذا الجين قرروا حقن النموذج المشوه من الجينات في سمكة دانيو مخططة.

اختيار اسماك الدانيو المخططة كحيوانات مخبرية بدأ كصدفة. حتى يتمكنوا من فهم عمل بعض الجينات بشكل افضل, توجه باحثون الى ذباب الخل و الديدان الاسطوانية. جورج سترايزينغر و هو بروفيسور في جامعة اوريغن, بحث في نهاية الستينات عن كائن حي معقد ذو عمود فقري. سترايزينغر كان عالم جينات غير عادي. اشترى لمشاريع ابحاثه الاولى اسماكا ذهبية و اسماك الجوبي من متجر للحيوانات الاليفة. يرقات الاسماك الشفافة يمكن فحصها بشكل جيد. اثبتت اسماك الدانيو المخططة انه يمكن العناية بها بسهولة في المخبر.

اجرى سترايزينغر ابحاثا لسنوات طويلة قبل ان يتمكن من خلق اول سمكة مستنسخة. تمكن من الوصول الى غلاف مجلة نيتشر عبر نتائج ابحاثه. بهذا عرف باحثون اخرون الامكانيات الكامنة في اسماك الدانيو المخططة و منهم الفائزة بجائزة نوبل في الطب كريستيانه نوسلاين-فولهارد. في مدينة توبنغن في المانيا بنت الباحثة في علوم الاحياء مزرعة للأسماك و انتجت اكثر من 4000 نوع مشوه جينيا.

عبر الاسماك المعدلة وراثيا توصل الباحثون لمعرفة وظائف الجينات. اي جين مسؤول عن حصول الكائن الحي على مقدمة و مؤخرة, على طرف علوي و اخر سفلي. اي الجينات مسؤولة عن نمو العظام و الاعضاء الداخلية و خلايا الجلد.

و عبر مقارنة الجينات توصل علماء الاحياء لمزيد من الامور المشتركة بين اسماك الدانيو المخططة و بين البشر. 70 بالمئة من الجينات البشرية عُثر على مطابق لها في اسماك الدانيو. لكن الاكتشاف الرائد كان: في المستوى البدائي تجري خطوات التطور في كل الحيوانات بشكل متشابه.

العمل الدؤوب لمن سبقه مكن كريستوف سايلر من اختبار التغييرات الجينية و بالتالي الحصول على المزيد من المعرفة حول التشوهات الجينية لدى البشر, و هو شرط للوصول الى علاج فردي مخصص لحالات نادرة كحالة دانييل.

عندما اصبح عمر يرقات الاسماك ثلاثة ايام وضعها سايلر مجددا تحت المجهر. قام بصنع النقط السوداء التي ستصبح عيونا فيما بعد. في الصدر كان القلب ينبض مسبقا. تم اعداد الاوعية اللمفاوية لتضيئ باللون الاخضر. سايلر لاحظ الكثير من اللون الاخضر. اكبر وعاء لمفاوي كان عريضا بشكل غير طبيعي و متشعب. كان يشبه شجرة بجذعين و اغصان في كل اتجاه. يعلم سايلر الان ان التشوه الجيني يقف خلف المرض اللمفاوي النادر. و لكن هل يستطيع ايقافه؟

الجين المشوه لدى دانييل المسمى ب ARAF يساهم في نمو خلايا الجسم. هناك ادوية يمكنها التدخل في هذه الآلية. و لكنها مخصصة لبعض حالات السرطان و تسبب آثارا جانبية قوية. و لهذا يحتاج الاطباء دليلا ان هذا الدواء يمكن فعليا ان يساعد دانييل. لهذا قام سايلر بتصنيع المزيد من التشوهات الجينية في اسماك الدانيو المخططة و قام بحل ادوية للسرطان في وعاء الاختبار.

بعدها بفترة قصيرة تلقت والدة دانييل مكالمة من العيادة. ابنها يشعر بانه قوي في هذا اليوم و ذهبوا معه الى مطعم لتناول طعام الغداء. الفتى طلب وجبته المفضلة, سمك مع بطاطا مقلية. الطبيب يتحدث عن علاج واعد جدا. يمكن لهذا العلاج انقاذ اسماك الدانيو المعدلة وراثيا.

في شهر اذار من عام 2017 و بعد المزيد من الابحاث على الخلايا تناول دانييل لاول مرة حبة من المستحضر تراميتينيب. كان من اوائل المرضى الذين عثر الاطباء على علاج مخصص لحالتهم بمساعدة اسماك الدانيو المخططة. يقول سايلر: لا يمكن تفسير كل مرض وراثي بتشوه جين معين بحد ذاته. وليس كل تشوه جيني يسبب نفس الاعراض لدى الانسان و اسماك الدانيو. من النادر ان تنجح تجربة فورا كما حصل في هذه الحالة.

و مع هذا يعلق الاطباء امالا عريضة على الاسماك ليس فقط فيما يتعلق بالامراض اللمفاوية. يدرسون ايضا امراض الدورة الدموية في الاسماك, بالاضافة لمرض السكري و امراض الكلية.  يقول سايلر: كل الاعضاء المهمة تعمل لدى الانسان بشكل مشابه لدى الاسماك, ماعدا الرئة.

باحثون آخرون ذهبوا ابعد من ذلك. العديد منهم لم يدرسوا جينات محددة و انما تفاعل الجينات الجماعي مع بعضها. عالم الاحياء اليكس شير من جامعة باسيل قال: نريد ان نعرف بالتفصيل كيف يتم تخصيص كل خلية اثناء عملية النمو.

لا يزال الحصول على استعمال طبي لهذا النوع من الابحاث بعيدا. و لكن الباحثين يأملون انه يوما ما سيتم وفقا لهذه الطريقة اصلاح الانسجة او تنظيم اعادة نمو الاعضاء. ستكون هذه مرة أخرى تؤشر فيها سمكة الدانيو المخططة الى طريقة علاج جديدة.

في فيرجينيا بيتش يمر دانييل مسرعا و هو يرتدي قميصا و بنطالا رياضيا و يدخل صالة الرياضة و يمر من امام مكتب الاستقبال و الخزائن, فقد تأخر. منذ أن بدأ باستعمال الدواء تغير الكثير في حياته. عاد الى المدرسة مجددا, يرفع الاثقال ثلاث مرات في الاسبوع و حصل على شهادة قيادة دراجة مائية.

لا يمكن للدواء ان يشفي دانييل, عليه ان يعيش دائما مع الخلل الجيني. و لكن الدواء يحمي اوعيته اللمفاوية من النمو بشكل غير طبيعي. قال انه يريد ان يضع في غرفته حوضا للسمك. بالطبع سيجلب اسماك الدانيو المخططة الى الحوض.

 

المصدر: دير شبيغل الالمانية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: