داخل مختبر صغير في ريف خصب على بعد 50 ميلا شمال نيويورك تتدلى من السقف أنابيب و معدات الكترونية. هذه الفوضى من المعدات هي عبارة عن جهاز كمبيوتر. و لكنه ليس كأي جهاز كمبيوتر و إنما جهاز قد يكون بداية للعبور إلى ما يمكن اعتباره خطوة مهمة في تاريخ هذا الحقل من العلوم.
الكوانتوم كمبيوتر يَعد بإنجاز حسابات رياضية تعتبر فوق قدرة أي جهاز كمبيوتر عادي فائق السرعة. الكوانتوم كمبيوتر قادر على إحداث ثورة في عالم اكتشاف أسرار المواد و ذلك عبر إتاحة الفرصة لتطبيق عملية محاكاة لسلوك المادة وصولا حتى إلى الذرات. أو ربما يحدث انقلابا في عالم أمن و تشفير البيانات عبر كشف شيفرات غير قابلة للكشف بطرق أخرى. حتى أن هناك أمل في قدرة الكوانتوم كمبيوتر على دفع الذكاء الاصطناعي بشكل كبير إلى الأمام و ذلك عبر إدارة البيانات بشكل أكثر فعالية.
و الآن فقط و بعد عقود من التقدم التدريجي أصبح الباحثون قريبين من بناء كوانتوم كمبيوتر قوي بما فيه الكفاية ليقوم بتنفيذ عمليات لا يقدر الكمبيوتر العادي عليها. البعض يريد أن يطلق على هذه المرجلة اسم: مرحلة التفوق الكوانتية. تقود شركة غوغل الجهود للوصول الى تلك المرحلة بينما تمتلك شركتا إنتيل و مايكروسوفت مساهمات هامة في هذا المجال الكوانتي. بالإضافة لذلك هناك شركات مبتدئة ممولة بشكل جيد كشركة ريغيتي لأجهزة الكمبيوتر, شركة IonQ و شركة الدارات الكوانتية.
و لكن لم يتمكن أحد من مقارعة جهود شركة IBM في هذا المجال. فقد بدأت الشركة قبل 50 عاما بتحقيق تقدم في مجال علم المواد مما وضع الأساسات اللازمة لثورة الكمبيوتر الحالية.
و لهذا قمت في شهر تشرين الاول الماضي بزيارة معهد ابحاث توماس واتسون التابع لشركة IBM لمحاولة الاجابة على الأسئلة التالية: لماذ نحتاج الكوانتوم كمبيوتر؟ و هل يمكن بناء جهاز عملي يمكن الاعتماد عليه؟
لماذا نعتقد أننا بحاجة لجهاز كوانتوم كمبيوتر
مركز البحث الواقع في مرتفعات يوركتاون يبدو بطريقة ما كصحن طائر كما تم تخيله في عام 1961. تم تصميمه من قبل المهندس المعماري الحداثي إييرو سارينين و تم بناؤه خلال فترة التألق في شركة IBM كصانع للآلات الكبيرة التي تشكل عصب عالم الأعمال. كانت شركة IBM أكبر شركة كمبيوتر و خلال عقد واحد تم خلاله بناء مركز الأبحاث تحولت إلى خامس أكبر شركة على الإطلاق بعد فورد و جنرل اليكتريك.
بينما تطل الممرات في المبنى على الريف المحيط, يعتمد التصميم على أن المكاتب في الداخل لا تحوي على أي نوافذ. في إحدى تلك الغرف الهادئة التقيت مع تشارلز بينيت. عمره الآن سبعون عاما. لديه سالفان أبيضان و يرتدي حذاء مفتوحا و جوارب سوداء و حتى أن لديه جيبا مليئا بالأقلام. محاط بشاشات كمبيوتر قديمة و نماذج كيميائية و كرة ديسكو صغيرة. يتذكر ولادة الكوانتوم كمبيوتر و كأنها كانت البارحة.
عندما انضم بينيت لفريق IBM في عام 1972 كان عمر علم فيزياء الكم نصف قرن تقريبا. و لكن علم الكمبيوتر كان مازال يعتمد على الفيزياء الكلاسيكية و على نظرية المعلومات الرياضية التي قام كلاود شانن بتطويرها في الخمسينيات. كان شانون هو من حدد مفهوم „ بتس“ و هو مصطلح قام بنشره و لكنه لم يُعرف على نطاق واسع. شانون قسّم البيانات الى وحدات سماها بيتس وهي أساس عملية تخزين هذه البيانات. هذه ال بيتس مؤلفة من أصفار و آحاد مرتبة ضمن نظام الأعداد الثنائي. وهذه الأصفار و الآحاد هي أساس عمل الكمبيوترات العادية.
بعد عام من وصوله إلى مرتفعات يوركتاون ساعد بينيت في وضع أساس نظرية المعلومات الكوانتية و التي ستغير كل شيء. تعتمد النظرية على استكشاف السلوك الغريب للأجسام ذات المقاس الذري. عندما يكون الجزيء بحجم الذرة فإنه يملك صفة تسمى بالتراكب أو الوضع الفائق, حيث يمكن للجزيء أن يتواجد بعدة حالات بوقت واحد, مثال على ذلك يمكن أن يتواجد بعدة مواضع بنفس الوقت. يمكن لجزيئين أن يتشاركا بصفة تسمى التشابك, بحيث أن تغيير أي صفة في أحد الجزئين سيقود إلى تغيير مماثل فوري في الآخر.
أدرك بينيت و آخرون أن بعض أنواع الحسابات و التي تستهلك وقتا هائلا أو أنها حتى مستحيلة التنفيذ يمكن أن تنفّذ بشكل فعال بمساعدة الظواهر الكوانتية. الكوانتوم كمبيوتر يقوم بتخزين المعلومات على شكل كوانتوم بيتس او ما يسمى اختصار ب كيوبيتس.
الكيوبيتس يمكن ان تتواجد بوضع 0 او بوضع 1 و ايضا بوضع ثالث يسمى التداخل أو التشابك. هذا الوضع الثالث أو التداخل يمكن أن يستخدم لإيجاد حلول لحسابات بعدد هائل من الحالات الممكنة. من الصعب مقارنة أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية مع الكوانتية و لكن يمكن ان نقول بشكل تقريبي أن كوانتوم كمبيوتر مجهز بعدة مئات من الكيوبيتس سيكون قادرا على إنجاز عدد من الحسابات بنفس الوقت أكثر من عدد الذرات في كل الكون الذي نعرفه الآن.
في صيف عام عام 1981 نظمت شركة IBM مع جامعة MIT مؤتمرا هاما اسمه أول مؤتمر حول فيزياء عمليات الحساب. عُقد المؤتمر في بيت إنديكوت و هو قصر مبني على الطراز الفرنسي ليس بعيدا عن جامعة MIT. في صورة التقتطها بينيت أثناء المؤتمر كان يمكن أن نرى عددا من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ علم الحساب و فيزياء الكم بمن فيهم كونراد زوسي, وهو من طور أول كمبيوتر قابل للبرمجة و ريتشارد فاينمان و هو مساهم مهم في فيزياء الكم. فاينمان ألقى أهم كلمة في المؤتمر أثار فيها موضوع استخدام ظواهر فيزياء الكم في عمليات الحساب. لقد حصلت نظرية المعلومات الكوانتية على أكبر دفع لها من قبل فاينمان. قال لي بينيت: بأن فاينمان قال: الطبيعة هي كم , اللعنة…. إذا أردنا أن نحاكيها فنحن نحتاج إلى كوانتوم كمبيوتر.
الكوانتوم كمبيوتر الذي صنعته IBM وهو أحد أهم النماذج حاليا موجود في الطابق أسفل مكتب بينيت. الجهاز مصمم لخلق و التلاعب بأهم عناصر الكوانتوم كمبيوتر وهي الكيوبيتس التي تخزن المعلومات.
الفجوة بين الحلم و الواقع
جهاز ال IBM يوظف ظواهر كوانتية تحصل في مواد فائقة الناقلية الكهربائية. على سبيل المثال: يجري التيار الكهربائي مع عقارب الساعة و بعكس عقارب الساعة بنفس الوقت. يستخدم كمبيوتر IBM دارات فائقة الناقلية الكهربائية حيث يتشكل الكيوبيتس من حالتين طاقيتين كهرومغناطيستين.
استخدام المواد فائفة الناقلية الكهربائية له عدة مزايا. فيمكن تصنيع الهاردوير او المعدات الصلبة بناء على طرق معروفة جيدا و مجربة قبل الآن كمان أن كمبيوترا عاديا يمكنه أن يتحكم بكل النظام. الكيوبيتس في الدارات فائقة السرعة أسهل للتحكم و أقل حساسية من استخدام الفوتونات أو الشوارد.
داخل المخبر الكوانتي في IBM يعمل مهندسون على نسخة من الكمبيوتر تحتوي على 50 كيوبيتس. يمكنك أن تجري محاكاة لكوانتوم كمبيوتر بسيط على جهاز كمبيوتر عادي, و لكن هذا يصبح مستحيلا مع 50 كيوبيتس. هذا يعني أن IBM تقترب نظريا من النقطة التي يصبح فيها الكوانتوم كمبيوتر قادرا على حل مشاكل يعجز عنها الكمبيوتر العادي, أو بمعنى آخر الوصول إلى التفوق الكوانتي.
و لكن باحثي IBM سيقولون لك أن مفهوم التفوق الكوانتي هو مفهوم مضلل. فعليك أن تجعل الخمسين كوانتوم بيتس تعمل بشكل مثالي. في الواقع تتعرض أجهزة الكوانتوم كمبيوتر كثيرا لأخطاء يجب تصحيحها. من الصعب جدا أيضا أن تحافظ الكيوبيتس على استقرارها لفترة من الزمن. إنها تميل للتفكك و تفقد طبيعتها الكوانتية الدقيقة. الأمر يبدو و كأنه حلقة من الدخان تتبدد عند هبوب أخف تيار هوائي. و كلما كان لديك المزيد من الكيوبيتس أصبح كلا التحديان أصعب.
فلو كان لديك 50 او 100 كيوبيتس و تعمل بشكل جيد كفاية و يتم تصحيحها بشكل كامل فعندها تستطيع أن تنجز حسابات لا يمكن تصور حجمها و لا يمكن تنفيذها عبر أي جهاز تقليدي الآن أو في أي وقت لاحق, كما يقول شيلكوف وهو بروفيسور في جامعة ييل و مؤسس شركة تسمى الدارات الكوانتية. الجانب السلبي من عملية الحساب الكوانتي هو أن هناك طرقا كثيرة جدا قد تؤدي إلى حصول أخطاء فيه.
سبب آخر للحذر هو أنه من غير الواضح حتى الآن مدى الاستفادة الممكنة من كوانتوم كمبيوتر يعمل بشكل مثالي. إنه لا يقوم بتسريع أي مهمة تكلفه بها. في الواقع سيكون أبطأ من أي جهاز تقليدي. عدد قليل فقط من الخوارزميات تم وضعها حتى الآن بحيث يمكنها أن تعطي مهمة واضحة للكوانتوم كمبيوتر. وحتى فيما يتعلق بهذه الأجهزة فإن المهمة ممكن أن يكون عمرها قصيرا. معظم الخوارزميات الشهيرة و التي صممها بيتر شور من جامعة MIT مخصصة لإيجاد المضاعفات الأساسية لعدد صحيح. العديد من نماذج التشفير العامة تعتمد على حقيقة أن هذه الخوارزميات صعبة التنفيذ بالنسبة لكمبيوتر عادي. لكن علم التشفير يمكن أن يتبنى خلق أنواع جديدة من الرموز التي لاتعتمد على التحليل إلى عوامل.
و لهذا و حتى عندما اقترب باحثو شركة IBM من الوصول إلى جهاز ال 50 كيوبيتس فإنهم أي الباحثون حريصون على الحد من الآمال المعقودة حوله. على طاولة في ممر يطل على حديقة خضراء في الخارج صادفت جاي غامبيتا وهو رجل استرالي طويل يبحث في مجال الخورازميات الكوانتية و مجالات العمل المحتملة للأجهزة الخاصة ب IBM. نحن في مرحلة نادرة, يقول مختارا كلماته بعناية, لدينا هذا الجهاز المعقد أكثر من قدرة أي جهاز كمبيوتر على محاكاته. و لكنه ليس تحت السيطرة بعد بالدقة التي تتيح لك أن تقوم بتشغيل الخوارزميات التي تعرفها عليه.
لكن ما يعطي العاملين في IBM أملا هو أنه حتى جهاز كوانتوم كمبيوتر غير مثالي يمكن أن يكون مفيدا. غامبيتا و باحثون آخرون ركزو على في إحدى التطبيقات على رؤية للعالم فاينمان تعود للعام 1981. التفاعلات الكيميائية و خواص المواد محددة بالتأثيرات المتبادلة بين الذرات و الجزيئات. هذه التأثيرات المتبادلة محكومة بظواهر كوانتية. جهاز الكوانتوم كمبيوتر على الأقل نظريا قادر على تمثيل هذه التأثيرات المتبادلة بشكل لا يمكن لأي كمبيوتر عادي القيام به.
في العام الماضي, قام غامبيتا و زملاؤه في IBM باستخدم جهاز مكون من سبعة كيوبيتس لمحاكاة البنية الدقيقة لمادة البريليوم هدريد. و على مستوى ثلاث ذرات فقط كان هذا أعقد جزيء تمت محاكاته عبر نظام كوانتي. بالإضافة لهذا فإن الباحثين يمكن أن يستخدمو الكوانتوم كمبيوتر لتصميم خلايا شمسية ذات فعالية أكثر, أدوية فعالة أكثر أو مفاعلات تحول ضوء الشمس لوقود نظيف.
هذه الأهداف بعيدة حتى الآن. و لكن كما يقول غامبيتا, من الممكن أن تحصل على نتائج قيمة من جهاز كوانتوم كمبيوتر معرض لارتكاب أخصاء ولكنه مربوط بجهاز كمبيوتر تقليدي.
من حلم للفيزيائيين إلى كابوس للمهندسين
يقول إسحق شوانغ وهو بروفيسور في جامعة MIT أن ما يدفع باتجاه هذه الضجة بخصوص الكوانتوم كمبيوتر هو الإدارك بأن الأمر حقيقي. لم يعد الأمر عبارة عن حلم للفيزيائيين و إنما أصبح الآن كابوسا للمهندسين. شوانغ قاد تطوير أحد أوائل أجهزة الكوانتوم كمبيوتر , عمل في السابق مع شركة IBM في كاليفورنيا في الفترة مابين نهاية التسعينات و بداية القرن الجديد. و مع أنه لم يعد يعمل على تطوير أجهزة كهذه فهو يعتقد أننا نشهد بداية شيء كبير جدا, و أن الكوانتوم كمبيوتر سيلعب على الأغلب دورا حتى في الذكاء الاصطناعي.
لكنه يشك أيضا أن الثورة لن تبدأ حقا إلا عندما يبدأ جيل جديد من الطلاب و الهكرز باللعب بأجهزة عملية. أجهزة الكوانتوم كمبيوتر لا تتطلب فقط لغة برمجة مختلفة, و لكن طريقة جديدة كليا للتفكير حول ماهية البرمجة. و كما يصف غامبيتا الأمر: نحن لا نعرف بعد ما هو المكافئ لبرنامج „هيلو وورلد“ في الكوانتوم كمبيوتر . نحن الآن قد بدأنا باكتشاف ذلك للتو.
في عام 2016 قامت شركة IBM بوصل كوانتوم كمبيوتر صغير إلى جهاز التخزين المركزي. و باستخدام مجموعة من الأدوات البرمجية تسمى QISKit تستطيع أن تشغل عبرها برامج بسيطة. آلاف من البشر بدء من الباحثين الأكاديميين و حتى طلاب المدارس تمكنوا من تصميم برنامجOISKit و التي تشغل خوارزميات كوانتية بسيطة. و الآن تطرح غوغل و شركات أخرى أجهزة الكوانتوم كمبيوتر الخاصة بها عبر شبكة الانترنت. لا يمكنك أن تنجز الكثير عبرها و لكنها تعطي الناس في الخارج مخبرا متقدما لمعرفة ما هو قادم.
بعد وقت قليل من مشاهدتي للكوانتوم كمبيوتر في شركة IBM ذهبت إلى مدرسة الأعمال في جامعة تورنتو لحضور منافسة للمبتدئين في مجال فيزياء الكم. فرق من رجال الأعمال نهضت لتقدم أفكارها لمجموعة من الأساتذة الجامعيين و المستثمرين. إحدى الشركات كانت تأمل باستخدام أجهزة الكوانتوم كمبيوتر لمحاكاة الأسواق المالية. آخر يخطط لجعلها تصمم بروتينات جديدة. أحدهم أراد حتى بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تطورا. و لكن ما بقى غير مؤكد في تلك القاعة هو أن كل فريق كا يقترح مجال عمل مبني على تقنية ثورية إلى درجة أنها موجودة بالكاد. بدا و كأن قلة تكترث بهذه الحقيقة.
الحماس قد يخف في حال كانت أجهزة الكوانتوم كمبيوتر بطيئة في إيجاد استخدام عملي لها. أفضل تقدير من الأشخاص الذين يعرفون الصعوبات حقا, أشخاص ك بينيت و شوانغ, هو أن أول أجهزة مفيدة من هذا النوع ما زالت بعيدة لسنوات. و هذا على فرض أن مشكلة التعامل و التلاعب بمجموعة كبيرة من الكيوبيتس لن تبقى صعبة الحل كما هي الآن. و مع هذا يحتفظ الخبراء بالأمل. عندما سألت شوانغ الذي تعلم كيف يستخدم الكمبيوتر عبر اللعب بالرقائق الالكترونية, كيف سيبدو العام عندما يكبر ابني البالغ من العمر عامين, أجاب بابتسامة خفيفة: ربما سيحصل ابنك على مجموعة أدوات لبناء كوانتوم كمبيوتر .
اترك تعليقًا